اخر المواضيع

الخميس، 22 يناير 2015

بنك مصر معزوفة وطنية اقتصادية شديدة العزوبة






بنك مصر :
معزوفة وطنية شديدة العذوبة، عزفها كل فئات الشعب في حب مصر، فلانت معها إرادة الحكام، و رضخت لها أعنة رؤوس الاحتلال آنذاك، فهي قصة تدل علي ما وصل إليه الشعب المصري من قمة النضج في المطالبة بحقوقه، و الإصرار عليها، و تكاتف مختلف طوائف الشعب للوصول إلي الهدف المنشود، و هو تحرير الاقتصاد من الاحتلال الأجنبي، آلا وهي تأسيس "بنك مصر".
فـ"بنك مصر" يعد بمثابة باكورة حملة تمصير الاقتصاد، فهو بداية الاستقلال الإقتصادي لمصر، كما كانت ثورة 1919م بداية الاستقلال السياسي فقد كانت مصر محتلة سياسياً بالقوات البريطانية، و لكنها كانت محتلة أيضاً اقتصادياً بالشركات و الوكالات و المصارف الأجنبية، فتجارة مصر الخارجية من صادرات و واردات و المصارف و البورصة و شركات التأمين و الصناعات المهمة كلها كانت في يد الأجانب، و كان قطاع البنوك من أكثر القطاعات سيطرة من الأجانب، فلم يكن هناك بنك واحد وطني.
و بدأت فكرة إنشاء بنك وطني من بدايات القرن العشرين، عندما تعرض أحد البنوك الأجنبية لهزة كبيرة، فقام بإغلاق فروعه، و منع الناس من سحب أموالهم المودعة فيه، ويذكر "د. يونان لبيب رزق" في كتابه "فؤاد الأول المعلوم و المجهول" عن قصة إنشاء بنك مصر أن فكرة إنشاء بنك مصري برأس مال وطني طُرحت علي الرأي العام لأول مرة في "جريدة الأهرام"، علي صفحتها الأولي ، في مقال كتبه طالب حقوق مصري اسمه "محمد بدوي البيلي" في الأحد 27 إبريل من عام 1919م، أي بعد أقل من شهرين من قيام الثورة، تحت عنوان حالتنا الاقتصادية وضرورة إنشاء بنك وطني، وذلك ضمن سلسلة مقالات -كتب خمس مقالات طويلة في هذا الشأن‏- كتبها يدعو فيها إلي حملة لإقامة بنك وطني بأموال وطنية و إدارة وطنية، ليكسر احتكار الأجانب لهذا القطاع، و يستثمر أموال المصريين في مشروعات وطنية في مصر، بدلاً من البنوك الأجنبية التي تحصل علي أموال الشعب و تستثمره في دولها.
و كانت هذه المقالة هي شرارة بدء حملة صحفية كبيرة، شارك فيها الطلبة و الكتاب و الصحفيين بمقالاتهم  و أعمدتهم، حتي أصبح قيام هذا البنك مطلب شعبي مهم، حيث تتابعت بعدها مقالات كتبها طالبي حقوق آخرين بنفس الدعوة، و تلقت الصحافة هذه الدعوة، و بدأت تنشر لها و تعضدها، و تدعو رجال الاقتصاد في مصر لتأسيس هذا البنك، و تدعو المصريين إلي سحب أموالهم من البنوك الأجنبية، و إيداعها في البنك الوطني الذي سيتم إنشائه.
و لم يمض علي الحملة شهرين حتي طارت الأخبار إلي الصحف أن بعض رجال الأعمال البشوات و الأفندية قد بدأوا بالفعل في تأسيس بنك وطني مصري برأس مال مصري، فقد تبني الإقتصادي المصري "طلعت حرب" فكرة إنشاء بنك ذو رسالة، وقام بتنفيذها، وتقديمها للمجتمع المصري بأسره، وتتمثل هذه الرسالة في استثمار المدخرات القومية وتوجيهها للنمو الاقتصادي والاجتماعي وهذا البنك هو بنك مصر، واستجاب أصحاب الأموال في مصر، و اجتمعوا ليشكلوا رأس مال أول بنك وطني برأس مال، حيث أقنع مائة وستة وعشرين من المصريين الغيورين بالاكتتاب لإنشاء البنك، وبلغ ما اكتتبوا به ثمانون ألف جنيه، تمثل عشرين ألف لهم، أي أنهم جعلوا ثمن السهم أربعة جنيهات فقط، وكان أكبر مساهم هو عبد العظيم المصري بك من أعيان مغاغة، فقد أشترى ألف سهم، و "علي باشا إسماعيل" و "محمد طلعت حرب" و "أحمد مدحت يكن" و "يوسف باشا أصلان قطاوي"، و "عبد الحميد السيوفي" و "فؤاد سلطان" و "إسكندر مسيحة" و "عباس بسيوني الخطيب".
وفي عددها الصادر يوم الاثنين ‏5‏ إبريل1920م، وتحت عنوان "بشري بتأسيس بنك مصر" نشرت جريدة الأهرام خطابا جاءها من "محمد طلعت حرب"، يبلغها فيه أنه سوف يصدر في ذات اليوم المرسوم السلطاني بتأسيس البنك، برأس مال أولي قدره ثمانون ألفا من الجنيهات، وأن المساهمين سوف يدعون في القريب العاجل علي هيئة جمعية عمومية، لتقرير زيادة رأس المال‏,‏ وأنهي خطابه مطالباً الأهرام بأن تزف هذه البشري لمواطنينا ليطمئنوا علي مشروعهم‏,‏ وعلقت الأهرام علي ذلك بالقول‏:‏ "قد انتقلنا الآن إلي طور العمل، فليقم الفعل مقام القول، وشد أزر العاملين بدل حثهم وتحريضهم واستنهاض همتهم‏".
في اليوم التالي الثلاثاء ‏6‏إبريل‏ 1920م نشرت الأهرام نص المرسوم السلطاني من سلطان مصر "أحمد فؤاد" بتأسيس شركة مساهمة تدعي بنك مصر بناء علي العقد الابتدائي المحرر من مساهمين كلهم مصريين هم: أحمد مدحت يكن باشا، يوسف أصلان قطاوي باشا وهو من كبار الأعيان اليهود المصريين، و محمد طلعت حرب بك، و عبد العظيم المصري بك، و عبد الحميد السيوفي بك، و الطبيب فؤاد سلطان بك، و اسكندر مسيحة افندي، و عباس بسيوني الخطيب افندي.
و الحقيقة أنه يحسب للسلطان فؤاد إقدامه علي إجازة هذا المشروع، خاصة و أن مصر مازالت تحت الحماية البريطانية، كما أن سلطة الاحتلال البريطاني والمتمثلة في دار المندوب السامي لم تتدخل لعرقلة المشروع، لم تحاول منع قيام هذا البنك المصري، أو وضع العقبات في طريق إنشائه، علي الرغم أنه قام لينافس "البنك الأهلي"، الذي كان يمثل سلطة الاحتلال الاقتصادي الانجليزي لمصر.
و يرجع د. يونان لبيب رزق ذلك لسببين، أولاً كان حالة الغليان الشعبي في أعقاب ثورة 1919م، فلم تشأ سلطة الاحتلال أن تفجر الوضع  مرة أخري، مثل ما حدث باعتقال سعد زغلول من قبل، و ثانياً ربما لاعتقادها أن المشروع الصغير برأس ماله، و قلة خبرة المصريين في أعمال البنوك، لن يستطيع أن يصمد في المنافسة، ويصارع الحيتان الكبيرة، و هي المصارف الأجنبية في المياه العميقة، و لن يلبث أن يقع و يغلق أبوابه، فلا داعي لدخول معركة ضد الرأي العام لا حاجة لها، و هو ما استطاع المصريون أن يثبتوا خطأه. 

وفى الثلاثاء 13أبريل1920 م نشرت الوقائع المصرية في الجريدة الرسمية للدولة مرسوم تأسيس شركة مساهمة مصرية تسمى " بنك مصر "، ونص عقد الشركة الابتدائي، على أن الغرض من إنشاء البنك هو القيام بجميع أعمال البنوك، من خصم وتسليف على البضائع والمستندات والأوراق المالية والكامبيو والعمولة، وقبول الأمانات والودائع، وفتح الحسابات والاعتمادات، وبيع وشراء السندات والأوراق المالية، والاشتراك في إصدار السندات، وغير ذلك مما يدخل في أعمال البنوك بلا قيد أو تحديد، وانه يجوز زيادة رأس المال بقرار من الجمعية العمومية للمساهمين، على إن يقوم بإدارة الشركة أو البنك مجلس إدارة مكون من تسعة أعضاء على الأقل ومن خمسة عشر عضواً على الأكثر تنتخبهم الجمعية العمومية، واشترط العقد أن يملك عضو مجلس الإدارة مائتين وخمسين سهماً على الأقل، ولا يجوز له التصرف فيها طول مدة عضويته، وأن لا يكون عضواً بالجمعية العمومية من يملك أقل من خمسة أسهم.
وفى مساء يوم الجمعة 7 مايو سنه 1920، احتفل بتأسيس البنك، و في 10 مايو 1920م، ألقي طلعت حرب خطبة عصماء في دار الأوبرا المصرية بمناسبة بدء أعمال بنك مصر، نشرتها الأهرام، و بدأت رحلة بنك مصر في تمصير الاقتصاد المصري، و القيام بمشروعات اقتصادية تعود بالنفع علي مصر و أشهرها و ربما ليس أهمها، إنشاء "أستوديو مصر" و "شركة مصر للتمثيل و السينما"، فقد قام البنك في الفترة منذ سنة 1920م إلى سنة 1960م بإنشاء 26 شركة في مجالات اقتصادية مختلفة، تشمل الغزل والنسيج والتأمين والنقل والطيران وصناعة السينما وقد استمر البنك في دعم جميع أنشطته بنفس معدل النمو، وقد تأسس بنك مصر حول المحاور الرئيسية الآتية:-
- إنشاء بنك مصري برأسمال مصري وإدارة مصرية وكوادر مصرية ولغة تعامل عربية.
 -تحويل تنموي للاقتصاد القومي من الاستثمار الزراعي إلى الاستثمار الصناعي.
 -إثبات القدرات العقلية للإنسان المصري.
و كان أول مقر مستأجر له في محل بنك دي روما القديم بشارع الشيخ أبو السباع، وقرب أواخر يوليو عام‏1920‏م كان قد تم إجراء الترميمات اللازمة في المبني المستأجر، وتأثيثه، وطبع المطبوعات، واختيار وتعيين الموظفين والعمال اللازمين، وتم افتتاح بنك مصر في شارع أبو السباع‏,‏ غير أنه كان في السوق المصرفي المصري سباع أخري أشد ضراوة‏,‏ وكان علي السبع الوطني أن يصارع الآخرين، مما يشكل فصلاً دراميا‏ً,‏ ليس فحسب في التاريخ الاقتصادي بل في تاريخ مصر الوطني كله‏.
وقد اتبع "محمد طلعت حرب باشا" سياسة تخطيطية من الطراز الأول، مبنية أساساً على إيمانه بأهمية الكيان الاقتصادي الذي أسسه في القيام بدور البنك القابض، الذي يؤسس مجموعة من الشركات المستقلة، التي تدور في فلكه، فترفعه والقطاعات الاقتصادية الأخرى تدريجياً، نتيجة التفاعل الطبيعي بينها جميعاً، وأدت سياسته الرشيدة إلى الكثير من التطورات التي شوهدت في الاقتصاد القومي، والتي كانت مرتبطة إلى حد كبير بنشاط بنك مصر وشركاته أو كانت تمثل نتيجة من نتائجه، فقد سعى لتعزيز انتشار "بنك مصر"، وقاعدة الشركات، حيث كان يقتطع جزءًا من أرباحه السنوية للمساهمة مع المواطنين المصريين في تنمية وتأسيس شركات صناعية تجارية، لتخرج العديد من الشركات والمشروعات البارزة للنور كـ"مطبعة مصر"، و"شركة مصر للغزل والنسيج" بالمحلة الكبرى، ولم تكن تلك الشركات مجرد منشآت مالية بحته غرضها الأساسي الربح المادي، ولكنها في الواقع منشات صناعية قومية تسعى لسد بعض الحاجات الضرورية للاستهلاك المحلى.


وعندما تعرض "بنك مصر" لأزمة مالية افتعلها الاحتلال البريطاني وضمت الحكومة حينها وتركها صندوق توفير البريد يسحب كل ودائعه، توجه طلعت حرب إلى وزير المالية "حسين سرى باشا" يرجوه واحًدا من ثلاثة أمور، إما أن تصدر الحكومة بيانا بضمان ودائع الناس لدى البنك، أو أن تحمل البنك الأهلي على أن يقرض بنك مصر مقابل المحفظة، أو أن تأمر بوقف سحب ودائع صندوق توفير البريد، اشترط سرى باشا رحيل "طلعت حرب" لإنقاذ البنك، فكان رد الأخير "مادام في خروجي حياة للبنك فلأذهب أنا وليعيش البنك". 
المصدر:-
- الموقع الإلكتروني لـ"بنك مصر".
- الموسوعة الحرة ويكيبيديا.
- موقع تاريخ مصر.
- د. يونان لبيب رزق، "فؤاد الأول المعلوم و المجهول".
- مقال بقلم  لـ"د. يونان لبيب رزق"، نشر بالأهرام بعدد الجمعة 23 يوليو 1999م، تحت عنوان "المصرف الوطني المصري".

???????